Jumat, 06 Juli 2012


 

الرسالة اللدنية


فى الرد على من أنكر العلم الغيبي اللدني
للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي



 







قد اعتنى بطبعها ونشرها
جمعية المشاورين : بمعهد ماهر الرياض
سنة 1434 هـ

الرسالة اللدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
        الحمد لله الذي زين قلوب خواص عباده بنور الولاية، وربى أرواحهم بحسن العناية، وفتح باب التوحيد على العلماء العارفين بمفتاح الدراية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين صاحب الدعوة والرعاية، ودليل الأمة إلى الهداية، وعلى آله سكان حرم الحماية.
العلم الغيبي اللدني
إعلم أن واحدا من أصدقائي حكى عن بعض العلماء أنه أنكر العلم الغيبـي اللدني الذي يعتمد عليه خواص المتصوفة وينتمي إليه أهل الطريقة ويقولون إن العلم اللدني أقوى وأحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعلم، وحكى أن ذلك المدعي يقول : بأني لا أقدر على تصوير علم الصوفية، لا أظن أن أحدا في العالم يتكلم في العلم الحقيقي من فكر وروية دون تعلم وكسب، فقلت : كأنه ما اطلع على طرق التحصيل، وما درى أمر النفس الإنسانية وصفاتها وكيفية قبولها لآثار الغيب وعلم الملكوت، فقال صديقي : نعم إن ذلك الرجل يقول بأن العلم هو الفقه وتفسير القرآن والكلام وحسب، وليس وراءها علم وهذه العلوم لا تتحصل الا بالتعلم والتفقه، فقلت : نعم فكيف يعلم علم التفسير فإن القرآن هو البحر المـحيط المشتمل على جميع الأشياء وليس جميع معانيه وحقائق تفسيره مذكورة في هذه التصانيف المشهورة بين العوام، بل التفسير غير ما يعلم ذلك المدعي، فقال ذلك الرجل : لا يعد التفاسير إلا التفاسير المعروفة المذكورة والمنسوبة الى القشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم، فقلت : لقد بعد عن منهج الحقيقة، فإن السُلَّمِي جمع شيئا في التفسير من كلمات المحققين شبه التحقيق، وتلك الكلمات غير مذكورة في سائر التفاسير. وذلك الرجل الذي لا يعد العلم إلا الفقه والكلام وهذا التفسير العامي كأنه ما علم أقسام العلوم وتفاصيلها ومراتبها وحقائقهاوظواهرها وبواطنها،وقد جرت العادة بأن الجاهل بالشيء ينكر ذلك الشيء، وذلك المدعي ماذاق شراب الحقيقة وما اطلع على العلم اللدني فكيف يقرّ بذلك، ولا أرضى بإقراره تقليدا أو تخمينا ما لم يعرف  فقال ذلك الصديق :أريد أن تذكر طرفا من مراتب العلوم وتصحيح هذا العلم وتعزيه أنت لنفسك وتقرّ على إثباته، فقلت: إن هذا المطلوب بيانه عسير جدا، لكن أشرع في مقدماته بحسب اقتضاء حالي وموافقة وقتـي وما سنح بـخاطري، ولا أريد تطويل الكلام فإن خير الكلام ما قلّودلّ، وسألت الله عزّ وجلّ التوفيق والإعانة وذكرت مطلوب صديقي الفاضل في هذا المفضول.

 

فصل

                                   في شرف العلم

        اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة الـمطمئنة حقائق الأشياء وصورها الـمجردة عن الـمواد بأعيانـها وكيفياتـها وكمياتها وجواهرها وذواتـها إن كانت مفردة، والعالم هو الـمحيط الـمدرك الـمتصور، والـمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس، وشرف العلم على قدر شرف معلومه، ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم. ولا شك أن أفضل الـمعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلها هو الله الصانع الـمبدع الحق الواحد، فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم وأجلها وأكملها، وهذا العلم ضروري واجب تـحصيله على جميع العقلاء كما قال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم. أمر بالسفر في طلب هذا العلم. فقال صلى الله عليه وسلم : اطلبوا العلم ولو بالصين. وعالم هذا العلم أفضل العلماء وبهذا السبب خصهم الله تعالى بالذكر في أجل المراتب، فقال : شهد الله أنه لاإله إلا هو والملائكة وأولوا العلم. فعلماء علم التوحيد الإطلاق هم الأنبياء وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهذا العلم وإن كان شريفا في ذاته كاملا في نفسه لا ينفي سائر العلوم بل لا يحصل إلا بمقدمات كثيرة، وتلك المقدمات لا تنتظم إلا من علوم شتى مثل علم السموات والأفلاك وعلم جميع المصنوعات، ويتولد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكر أقسامها في مواضعها.
فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم، حتى أن علم السحر شريف بذاته وإن كان باطلا، وذالك أن العلم ضد الجهل، والجهل من لوازم الظلمة، والظلمة من حيز السكون، والسكون قريب من العدم، ويقع الباطل والضلالة في هذا القسم، فإذا الجهل حكمه حكم العدم، والعلم حكمه حكم الوجود، والوجود خير من العدم، والهداية والحق والنور كلها في سلك الوجود، فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل، فإن الجهل مثل العمى والظلمة، والعلم مثل البصر والنور،وما يستوي الأعمى والبصير ۞ ولا الظلمات ولا النور. وصرح سبحانه بهذه الإشارات فقال : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فاذا كان العلم خيرا من الجهل، والجهل من لوازم الجسم، والعلم من صفات النفس، والنفس أشرف من الجسم، وللعلم أقسام كثيرة نحصيها في فصل أخر. وللعالم في طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل آخر. والآن لا يتعين عليك بعد معرفة فضل العلم إلا معرفة النفس التي هي لوح المعلوم ومقرها ومحلها، وذلك أن الجسم ليس بمحل للعلم لأن الأجسام متناهية، ولا يتسع لكثرة العلوم بل لا يحتمل إلا النقوش والرقوم والنفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة ولا مزاحمة وملال وزوال، ونحن نتكلم في شرح النفس على سبيل الاختصار.

فصل
في شرح النفس والروح الإنساني
اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان من شيئين مختلفين : أحدهما : الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد المركب المؤلف الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره، والأخر : هو النفس الجوهري المفردالمنير المدرك الفاعل المحرك المتمم للألات والأجسام، والله تعالى ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه بأجزاء الرماد، ومهد قاعدته وسوّى أركانه وعين أطرافه وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المفيذ. ولا اعني بالنفس القوّة الطالبة للغذاء، ولا القوة المحرّكة للشهوة والغضب،ولا القوة الساكنة في القلب المولدة في الحياة, والمبرزة للحس والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء،فإن هذه القوة تسمى روحا حيوانيا، والحس والحركة والشهوة والغضب من جنده، وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحا طبيعيا، والهضم والدفع من صفاتها، والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوى المنطبعة كلها خدام للجسد والجسد خادم الروحالحيواني لأنه يقبل القوى عنه ويعمل بحسب تحريكه وإنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفردي الذي ليس من شأنه الا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية، ويقبل جميع العلوم ولا يمل من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد، وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى، الكل يخدموه ويمتثلون أمره وللنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم إسم خاص،فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الأمري والمتصوفة تسميه القلب والخلاف فى الأسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه . فالقلب والروح عندنا والمطمئنة كلها أساميالنفس الناطقة، والنفس الناطقة هي الجوهر الحي الفعال المدرك، وحيثما نقول : الروح المطلق أو القلب فإنما نعنى به هذا الجوهر، والمتصوفة يسمون الروح الحيواني نفسا والشرع ورد بذلك فقال : أعدى عدوك نفسك، وأطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالإضافة، فقال : نفسك التى بين جنبيك. وإنما أشار بهذه اللفظة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين الجنبين. فإذا عرفت فرق الأسامي فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبارات مختلفة ويرون فيه آراء متفاوتة، والمتكلمين المعرفين بعلم الجدل يعدون النفس جسما ويقولون إنه جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف ولا يرون الفرق بين الروح والجسد إلا بللطافة والكثافة، وبعضهم يعدالروح عرضا، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول، وبعضهم يرى الدم روحا وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا القسم الثالث.
واعلم أن الأقسام ثلاثة : الجسم والعرض والجوهر الفرد. فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع فى زجاجة القلب أعنى ذلك الشكل الصنوبري المعلق بالصدر والحياة ضوء السراج والدم دهنه والحس والحركة نوره والشهوة حرارته والغضب دخانه والقوة الطالبة للغذاء الكائنة فى الكبد خادمه وحارسه ووكيله – وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات والإنسان هو جسم وآثاره أعراض وهذا الروح لا يهتدي الى العلم ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانع وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن، لو يزيد الدم ينطفىء ذلك السراج بزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفىء بزيادة البرودة وانطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب الباري سبحانه ولا تكليف الشارع لهذا الروح لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام الشرع، والانسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا خاصا به، وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض لأنه من أمر الله تعالى كما قال : قل الروح من أمر ربي[1] وقال : يآأيتها النفس المطمئنة . إرجعي الي ربك راضية مرضية. وأمر الباري تعالى ليس بجسم ولا عرض، بل قوة إلـهية مثل العقل الأول واللوح والقلم، وهي الجواهر المفردة المفارقة للمواد بل هي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة، والروح والقلب بلساننا من قبل تلك الجواهر، ولا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت، بل يفارق البدن وينتظر العود اليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع. وقد صح في العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة والدلائل الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم ولا عرض بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد، ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديد الدلائل لأنها مقررة مذكورة. فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك الفن. فأما في طريقنا فلا يتأتى بالبرهان بل نعول على العيان ونعتمد على رؤية الإيمان،ولماأضاف الله تعالى الروح إلى أمره وتارة إلى عزته, فقال : ونفخت فيه من روحي. وقال : قل الروح من أمر ربي. وقال : فنفخنا فيه من روحنا. والله تعالى أجل من أن يضيف إلى نفسه جسما أو عرضا لخستهما وتغيرهما وسرعة زوالهما وفسادهما، والشارع صلى الله عليه وسلم قال : الأرواح جنود مجندة. وقال : أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر. والعرض لا يبقى بعد فناء الجوهر لأنه لايقوم بذاته، والجسم يقبل التحليل، كما قيل : التركيب من المادة والصورة كما هو مذكور في الكتب، فلما وجدنا هذه الآيات والأخبار والبراهين العقلية علمنا أن الروح جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلاح الدين وفساده،والروح الطبيعي والحيواني وجميع القوى البدنية كلها من جنوده، وأن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات وحقائق الموجودات من غير اشتغال بأعيانها وأشخاصها، فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة الإنسانية من غير أن ترى إنسانا كما أنها علمت الملائكة والشياطين، وما احتاجت إلى رؤية أشخاصها إذ لاينالهما حواس أكثر الناس، وقال قوم من المتصوفة أن للقلب عينا كما للجسد، فيرى الظواهر بالعين الظاهرة، ويرى الحقائق بعين العقل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما من عبد إلا ولقلبه عينان. وهما عينان يدرك بهما الغيب، فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا فتح عيني قلبه ليرى ما هو غائب عن بصره, وهذا الروح لا يموت بموت البدن لأن الله يدعوه إلى بابه فيقول : ارجعي إلى ربك. وإنما هويفارق ويعرض عن البدن فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية والطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون : موت، وأهل الطريق أعني الصوفية يعتمدون على الروح والقلب أكثر اعتمادا منهم على الشخص. وإذا كان الروح من أمر الباري تعالى فيكون في البدن كالغريب، ويكون وجهه إلى أصله ومرجعه. فينال الفوائد من جانب الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص إذا قوي ولم يدنس بأدناس الطبيعةوإذا علمت أن الروحجوهر فرد وعلمت أن الجسد لابد له من المكان. والعرض لا يبقى الا بالجوهر.فاعلم أنّ هذا الجوهر لا يحلّ في محلّ ولا يسكن في مكان، وليس البدن مكان الروح ولا محل القلب، بل البدن آلة الروح وآداة القلب ومركب النفس . والروح ذاته غير متصل بأجزآء البدن ولا منفصل عنه، بل هو مقبل على البدن مفيد له مفيض عليه، وأول ما يظهر نوره على الدماغلأنّ الدماغ مظهره الخاص اتّخذ من مقدمه حارسا. ومن وسطه وزيرا ومدبرا، ومن آخره خزانة وخازنا، ومن جميع الأجزاء رجالا وركبانا، ومن الروح الحيواني خادما، ومن الطبيعي وكيلا ، ومن البدن مركبا، ومن الدنيا ميدانا، ومن الحياة بضاعة ومالا، ومن الحركة تجارة، ومن العلم ربحا، ومن الآخرة مقصدا ومرجعا، ومن الشرع طريقة ومنهجا، ومن النفس الأمارة حارسا ونقيبا، ومن اللوامة منبها، ومن الحواس جواسيس وأعوانا، ومن الدين درعا، ومن العقل أستاذا، ومن الحس تلميذا،والرب سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد، والنفس بهذا الصفة مع هذه الآلة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف، وما اتصلت بذاته بل تنيله الإفادة،ووجهها الى بارئها  وأمر بارئها  بالإستفادة الى أجل مسمى، فالروح لا يشتغل في مدة هذا السفر إلا بطلب العلم لأن العلم يكون حليته في دار الآخرة؛ لأن حليةالمال والبنين زينة حياة الدنيا، فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات، والسمع مواظب على استماع الأصوات، واللسان مستعد لتركيب الأقوال، والروح الحيواني مريد اللذات الغضبية، والروح الطبيعي محب للذائذ الأكل والشرب،كذلك الروح المطمئنة أعني القلب لايريد إلا العلم ولايرضى إلا به ويتعلم طول عمره. ويتحلى بالعلم جميع أيامه إلى وقت مفارقته، ولو قبل أمرا آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن لا لمراد ذاته ومحبة أصله. فإذا علمت أحوال الروح ودوام بقائه وعشقه للعلم وشغفه به فيجب عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة ونحن نحصيها بالاختصار.

فصل
في أصناف العلم وأقسامه
        إعلم أن العلم على قسمين : أحدهما شرعي والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها. وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها ؛ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
        أما القسم الأول : وهو  العلم الشرعي، فينقسم إلى نوعين :
        أحدها : في الأصول وهو علم التوحيد. وهذاالعلم ينظر في ذات الله تعالى وصفاته القديمة، وصفاته الفعلية، وصفاته الذاتية المتعددة بالأسامي على الوجه المذكور. وينظر أيضا في أحوال الأنبياء والأئمة من بعدهم والصحابة. وينظر في أحوال الموت والحياةوفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحساب ورؤية الله تعالى وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولا بأيات الله تعالى من القران ثم باخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية، وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعادي ولواحقهما منأصحاب المنطق الفلسفي، ووضعوا أكثر الالفاظ في غير مواضعها، ويعبرون في عباراتهم بالجوهر والعرض والدليل والنظر والاستدلال والحجة، ويختلف معنى كل لفظ من هذه الألفاظ عند كل قوم حتى أن الحكماء يعنون بالجوهر شيئا،والصوفية يعنون شيئا آخر، والمتكلمون شيئا، و على هذا المثال، وليس المراد في هذه الرسالة تحقيق معاني الألفاظ على حسب آراء القوم، فلا نسرع فيها. وهؤلآء القوم مخصوصون بالكلام في الأصول وعلم التوحيد و لقبهم المتكلمون، فإن اسم الكلام اشتهر على علم التوحيد. ومن علم الأصول التفسير، فإن القرآن من أعظم الأشيآء و أبينها وأجلها وأعزها. وفيه من المشكلات الكثيرة ما لا يحيط بها كل عقل إلا من أعطاه الله تعالى فهما في كتابه. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( ما من آية من آيات القرآن إلا ولها ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن )، وفي رواية إلى تسعة. وقال صلى الله عليه وسلم : ( لكل حرف من حروف القرآن حد ولكل حد مطلع )، والله تعالى أخبر في القرآن عن جميع العلوم وجلي الموجودات وخفيها وصغيرها وكبيرها ومخصوصها ومعقولها. والى هذه الإشارة بقوله تعالى : (ولارطب ولايابس إلا في كتاب مبين)[2]. وقال تعالى :(ليدبّروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب)[3]. وإذا كان أمر القرآن أعظم الأمور فأي مفسرين أدى حقه وأي عالم خرج عن عهدته، نعم... كل واحد من المفسرين شرع في شرحه بمقدار طاقته وخاض في بيانه بحسب قوة عقله وقدر كنه علمه فكلهم قالوا وبالحقيقة ما قالوا، وعلم القرآن يدل على علم الأصول والفروع والشرعي والعقلي. ويجب على المفسر أن ينظر في القرآن من وجه اللغة ومن وجه الإستعارة ومن وجه تركب اللفظ ومن وجه مراتب النحو ومن وجه عادة العرب ومن وجه أمور الحكمآء ومن وجه كلام المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق ولو يقتصر على وجه واحد ويقنع في البيان بفنّ واحد لم يخرج عن عهدة البيان ويتوجه عليه حجة الإيمان وإقامة البرهان.
ومن علم الأصول علم الأخبار. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب والعجم وكان معلما يوحى إليه من قبل الله تعالى وكان عقله محيطا بجميع العلويات والسفليات فكل كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار الأسرار وكنوز الرموز، فعلم أخباره ومعرفة أحاديثهأمر عظيم وخطب جليل. لايقدر أحد أن يحيط بعلم الكلام النبوي إلا ان يهذّبنفسه بمتابعة الشارع ويزيل الإعوجاج عن قلبه بتقويم شرع النبي صلى الله عليه وسلم،ومن أراد أن يتكلم في تفسير القرآن وتأويل الأخبار ويصيب في كلامه فيجب عليه أوّلا تحصيل علم اللغة والتبحر في علم النحو والرسوخ في ميدان الإعراب والتصرف في أصناف التصريف فإن علم اللغة سلم ومرقاة إلى جميع العلوم "ومن لم يعلم اللغة فلا سبيل له إلى تحصيل العلوم". فإن من أراد أن يصعد سطحا عليه تمهيد المرقاة أولا ثم بعد ذلك يصعد، وعلم اللغة وسيلة عظيمة ومرقاة كبيرة فلا يستغني طالب العلم عن أحكام اللغة، فعلم اللغة أصل الأصول، وأول علم اللغة معرفة الأدوات، وهي بمنزلة الكلمات المفردة وبعدها معرفة الأفعال مثل الثلاثي والرباعي وغيرهما، ويجب على اللغوي أن ينظر في أشعار العرب، واَوْلاها وأتقنها أشعار الجاهلية. فإن فيها تنقيحا للخاطر وترويحا للنفس ومع ذلك الشعر والأدوات والأسامي يجب تحصيل علم النحو فإنه لعلم اللغة بمنزلة ميزان القبان للذهب والفضة. والمنطق لعلم الحكمة والعروض للشعر والذراع للأثواب والمكيال للحبوب وكل شيئ لا يوزن بميزان لا يتبين فيه حقيقة الزيادة والنقصان. فعلم اللغة سبيل إلى علم التفسير والأخبار .وعلم القرآن والأخبار دليل على علم التوحيد،وعلم التوحيد هو الذي لا تنجو نفوس العباد إلا به ولا تتخلص من خوف المعاد إلا به، فهذا تفصيل علم الأصول.
        النوع الثاني : من العلم الشرعي هو علم الفروع. وذلك أن العلم إما أن يكون علميا وإما أن يكون عمليا، وعلم الأصول هو العلمي وعلم الفروع هو العملي وهذا العلم العملي يشتمل على ثلاثة حقوق: أولهاحق الله تعالى وهو أركان العبادات مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والأذكار والأعياد والجمعة وزوائدها من النوافل والفرائض. وثانيها حق العباد وهو أبواب العادات، ويجري في وجهين: أحدهما المعاملة مثل البيع والشركة والهبة والقرض والدين والقصاص وجميع أبواب الديات، والوجه الثاني : المعاقدة مثل النكاح والطلاق والعتق والرق والفرائض ولواحقها، ويطلق اسم الفقه على هذين الحقين. وعلم الفقه علم شريف مفيد عام ضروري لا يستغني الناس عنه لعموم الضرورة إليه، وثالثها حق النفس وهو علم الأخلاق والأخلاق إما مذمومة ويجب رفضها وقطعها وإما محمودة ويجب تحصيلها وتحلية النفوس بها، والأخلاق المذمومة والأوصاف المحمودة مشهورة في كتاب الله تعالى وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم "من تخلق بواحد منها دخل الجنة".
وأما القسم الثاني من العلم فهو العلم العقلي وهو علم معضل مشكل يقع فيه خطأ وصواب وهو موضوع  في ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى : وهو أول المراتب العلم الرياضي والمنطقي، أما الرياضي فمنه الحساب وينظر في العدد، والهندسة وهي علم المقادير والأشكال والهيئة أعني علم الأفلاك والنجوم وأقاليم الأرض، وما يتصل بها، ويتفرععنه علم النجوم وأحكام المواليد والطوالع، ومنه علم المسبقي الناظر في نسب الآثار، وأما المنطقي فينظر في طريق الحد والرسم في الأشياء التي تدرك بالتصور،وينظر من طريق القياس والبرهان في العلوم التي تنال بالتصديق ويدور علم المنطق على هذه القاعدة يبتدئ بالمفردات ثم بالمركبات ثم بالقضايا ثم بالقياس ثم بأقسام القياس ثم مطلب البرهان وهو نهاية علم المنطق.
المرتبة الثانية : وهو أوسطها العلم الطبيعي وصاحبه ينظر في الجسم المطلق وأركان العالم وفي الجواهر والأعراض وفي الحركة والسكون وفي أحوال السموات والأشياء الفعلية والإنفعالية، ويتولد من هذا العلم النظر في أحوال مراتب الموجودات وأقسام النفوس والأمزجة وكمية الحواس وكيفية إدراكها لمحسوساتها ثم يؤدي إلى النظر في علم الطب وهو علم الأبدان والعلل والأدوية والمعالجات وما يتعلق بها، ومن فروعه علم الآثار العلوية وعلم المعادن ومعرفة خواص الأشيآء وينتهي إلى علم صنعة الكيمياء وهي معالجة الأجساد المريضة في أجواف المعادن .
المرتبة الثالثة : وهي العلي هي النظر في الموجود ثم تقسيمه الى الواجب والممكن ثم النظر في الصانع وذاته وجميع صفاته وأفعاله وأمره وحكمه وقضائه وترتب ظهور الموجودات عنه ثم النظر في العلويات والجواهر المفردة والعقول المفارقة والنفوس الكاملة ثم النظر في أحوال الملآئكة والشياطين وينتهي إلى علم النبوات وأمر المعجزات وأحوال الكرامات والنظر في أحوال النفوس المقدسة وحال النوم واليقظة ومقامات الرؤيا .ومن فروع علم الطلمسات والنبرنجات ومايتعلق بها ولهذه العلوم تفاصيل وأعراض ومراتب تحتاج إلى شرح جلي ببرهان بهي ولكن الإقتصار أولى.

فصل
في علم الصوفية
اعلم أن العلم العقلية مفرد بذاته ويتولد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال العلمين المفردين، وذلك العلم المركب علم الصوفية، وطريقة أحوالهم، فإن لهم علما خاصا بطريقة واضحة مجموعة من العلمين، وعلمهم يشتمل على الحال والوقت والسماع والوجد والشوق والسكر والصحو والإثبات والمحو والفقر والفنآء والولاية والإرادة والشيخ والمريد وما يتعلق بأحوالهم مع الزوآئد والأوصاف والمقامات . ونحن نتكلم في هذه العلوم الثلاثة في كتاب خاص؛ إن شآء الله تعالى. والآن ليس قصدنا إلاتعديد العلوم وأصنافها في هذه الرسالة، وقداختصرناها وعددناها على طريق الإختصار والإيجاز ومن أراد الزيادة وشرح هذه العلوم فليرجع إلى مطالعة الكتب، ولما انتهى الكلام في بيان تعديد أصناف العلوم فاعلم أنت يقينا أن كل فن من هذه الفنون وكل علم من هذه العلوم يستدعي عدةشرائط لينتقش في نفوس الطالبين فبعد تعديدالعلوم يجب عليك أن تعرف طرق التحصيل فإن لتحصيل العلم طرقا معينة نحن نفصلها إن شآء الله.
فصل
في بيان طرق التحصيل للعلوم
اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين أحدهما : التعلم الإنساني والثاني : التعلم الرباني.
أما الطريق الأول فطريق معهود ومسلك محسوس يقربه جميع العقلاء. وأما التعلم الرباني فيكون على وجهين أحدهما : من خارج وهو التحصيل بالتعلم والآخر من داخل وهو الاشتغال بالتفكر والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العلمآء والعقلآء والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر أو في قلب المعدن والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيئ من القوة إلى الفعل.والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل، فنفس المتعلم تشتبه بنفس المعلم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع والمتعلم بالإستفادة كالأرض.والعلم الذي هو بالقوة كالبذر، والذي بالفعل كالنبات فإذا كملت نفس المتعلم تكون كالشجرة المثمرة أو كالجوهر الخارج من قعر البحر وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة تعلم وطول المدة وتحمل المشقة والتعب وطلب الفائدة وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثرة التعلم فإن النفس القابل تجد من الفوائد بالتفكر ساعة ما لاتجد نفس الجامد بالتعلم سنة فإذن بعض الناس يحصلون العلوم بالتعلم وبعضهم بالتفكر والتعلم يحتاج إلى التفكر فإن الإنسان لايقدر أن يتعلم جميع الأشيآء الجزئيات والكليات وجميع المعلومات بل يتعلم شيئا ويستخرج بالتفكر من العلوم شيئا وأكثر العلوم النظرية والصنائع العملية استخرجها نفوس الحكماء بصفآء ذهنهم وقوة فكرهم وحدة حدسهم من غير زيادة تعلم وتحصيل ولولا أن الإنسآن يستخرج بالتفكر شيئا من معلومه الأول لكان يطول الأمر على الناس ولما كانت  تزول ظلمة الجهل عن القلوب لأن النفس لاتقدر أن تتعلم جميع مهماتها الجزئيةوالكلية بالتعليم، بل بعضها بالتحصيل وبعضها بالنظر كما يرى عادة الناس وبعضها يستخرج من ضميره بصفاء فكره وعلى هذا جرت عادة العلمآء وتمهدت قواعد العلوم حتى أن المهندس لا يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول عمره بل يتعلم كليات علمه وموضوعاته ثم بعد ذلك يستخرج ويقيس وكذلك الطبيب لايقدر أن يتعلم جزئيات أدوآء الأشخاص وأدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية ويعالج كل شخص بحسب مزاجه وكذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر ويحكم بالاحكام المختلفة وكذلكالفقيه والأديب وهكذا إلى بدائع الصنائع فواحد وضع آلة الضرب وهو العود بتفكره وآخر استخرج من تلك الآلة آلة أخرى وكذلك جميع الصنائع البدنية والنفسانية أوآئلها محصلة من التعلم والبواقي مستخرجة من التفكر وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب فينشرح قلبه وتنفتح بصيرته فيخرج ما في نفسه من القوة إلى الفعل من غير زيادة طلب وطول تعب.
الطريقة الثانية : وهو التعليم الرباني على وجهين :
الأول : إلقاء الوحي وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها وتتمسك بوجود مبدعها وتعتمد على إفادتها وفيض نوره، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا. وينظر إليها نظرا إلهيا ويتخذ منها لوحا. ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسية كالمتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر، ومصداق هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( وعلمك ما لم تكن تعلم )[4]. الآية. فعلم الأنبيآء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلآئق لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة.وبيان هذا يوجد في قصة آدم عليه السلام والملآئكة فإنهم تعلموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق كثيرا من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم عليه السلام ما كان عالما  لأنه ما تعلم وما رأى معلما فتفاخرت الملآئكة وتجبروا وتكبروا فقالوا : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)[5]. ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم عليه السلام إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى فعلمه جميع الأسماء : ( ثم عرضهم على الملائكة )[6]. فقال : ( أنبئوني بأسمآء هؤلآء إن كنتم صادقين )[7]. فصغر حالهم عند آدم. وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم فغرقوا في بحر العجز : (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )[8]. فقال تعالى : ( يا آدم أنبئهم بأسمآئهم )[9]. فأنبأهم آدم عدة مكنونات العلم ومستترات الأمر فتقرر الأمر عند العقلآء أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، وأغلق الله باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم وكان يقول : أدبني ربي فأحسن تأديبي، وقال لقومه : أنا أعلمكم وأخشاكم من الله تعالى، وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لأنه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني. قال تعالى:( علمه شديد القوى )[10].
الوجه الثاني : هو الإلهام، والإلهام تنبيه النفس الكلية للنفس الجزئية الإنسانية على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها، والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي والإلهام هو تعريضه، والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف، وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حوآء إلى آدم عليه السلام، وقد بين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلية. والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام ومن إشراف النفس الكلية يتولد الإلهام, "فالوحي حلية الأنبيآء والإلهام زينة الأوليآء". فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي فكذلك الإلهام دون الوحي فهو ضعيف بنسبة الوحي قوي بإضافة الرؤيا والعلم علم الأنبيآء والأوليآء. فأما علم الوحي فخاص بالرسل موقوف عليهم كما كان لآدم وموسى عليهما السلام وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم وغيرهم من الرسل.
وفرق بين الرسالة والنبوة، فالنبوة قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات إلى المستفدين والقابلين، وربما يتفق القبوللنفس من النفوس ولايتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب، والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية كما كان للخضر عليه السلام حيث أخبره الله تعالى عنه، فقال : ( وعلمناه من لدنا علما )[11]. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي  طالب كرم الله وجهه : ((أدخلت لساني في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم مع كل باب ألف باب))، وقال ((لووضعت لي وسادة وجلست عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ولأهل القرآن بقرآنـهم)). وهذه مرتبة لا تنال بمجرد التعلم الإنساني، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني، وقال أيضا رضي الله عنه يحكي عن عهد موسى عليه السلام أن شرح كتابه أربعون حملا فلو يأذن الله في شرح معاني الفاتحة لأشرح فيها حتى تبلغ مثل ذلك يعني أربعين وقرا، وهذه الكثرة والسعة والانفتاح في العلم لا يكون إلا لدنيا إلهيا سماويا. فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح،فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات وانتقشفيها معاني تلك المكنونات فتعبر النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده،  وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدنـي وما لم يبلغ الإنسان هذه المرتبة لا يكون حكيما لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلاّ أولوا الألباب )[12]. وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعليم فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.واعلم أن الوحي إذا انقطع وباب الرسالة إذا انسد استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجة وتكميل الدين كما قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم )[13]. وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائدة من غير حاجة. فأما باب الإلهام فلا ينسدّ، ومدد نور النفس الكلية لا ينقطع لدوام ضرورة النفوس وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة واحتاجوا إلى  التذكير والتنبيه لاستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فالله تعالى أغلق باب الوحي وهو آية العباد وفتح باب الإلهام رحمة وهيأ الأمور . ورتب المراتب ليعلموا أن الله لطيف بعباده يرزق من يشآء بغير حساب.

فصل
في مراتب النفوس في تحصيل العلوم
        اعلم أن العلوم مركوزة في جميع النفوس الإنسانية وكلها قابلة لجميع العلوم. وإنما يفوت نفسا من النفوس حظها منه بسبب طارئ وعارض يطرأ عليها من خارج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( خلق الناس حنفآء فاختالتهم الشياطين )). وقال صلى الله عليه وسلم : ((كل مولود يولد على الفطرة)) الحديث، فالنفس الناطقة الإنسانية أهل لإشراق النفس الكلية عليها ومستعدة لقبول الصور المعقولة عنها بقوة طهارتها الأصلية وصفاتها ولكن يمرض بعضها في هذه الدنيا. ويمتنع عن إدراك الحقائق بأمراض مختلفة وأعراض شتى، ويبقى بعضها على الصحة الأصلية بلا مرض وفساد. يقبل أبدا مادامت حية، والنفوس الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة والتصرف في عالم الكون والفساد، فإن تلك النفوس باقية على الصحة الأصلية، وما تغيرت أمزجتها بفساد الأمراض وعلل الأعراض فصارالأنبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق إلى صحة الفطرة.
وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئة فصارت على مراتب، بعضهم تأثر بمرض المنزل تأثرا ضعيفا . ودقّ غمام النسيان في خواطرهم فيشتغلون بالتعلم، ويطلبون الصحة الأصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر، وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتعليم ويطلبون الصحة الأصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر، وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتحصيل والتصحيح جميع أيامهم ولا يفهمون شيئا لفساد أمزجتهم، لأن المزاج إذا فسد لا يقبل العلاج، وبعضهم يتذكرون وينسون ويرتاضون ويذلون أنفسهم ويجدون نورا قليلا وإشراقا ضعيفا. وهذا التفاوت إنما ظهر من إقبال النفوس على الدنيا واستغراقها بحسب قوتهاوضعفها كالصحيح إذا مرض والمريض إذا صح. وهذهالعقدة إذا انحلت تقر النفوس بوجود العلم اللدني وتعلم أنها كانت عالمة في أول الفطرة وصافية في ابتداء الاختراع، وإنما جهلت لأنها مرضت بصحبة هذا الجسد الكثيف والإقامة في هذا المنزل الكدر والمحل المظلم، وأنها لا تطلب بالتعلم إيجاد العلم المعدوم. ولا إبداع العقل المفقود بل إعادتها العلم الاصلي الغريزي وإزالة طريان المرض بإقبالها على زينة الجسد وتمهيد قاعدته ونظم أساسه.والأب المحب المشفق على ولده إذا أقبل على رعاية الولد واشتغل بمهماته ينسى جميع الأمور ويكتفي بأمر واحد وهو أمر الولد، فالنفس لشدة شغفها وشفقتها أقبلت على هذا الهيكل واشتغلت بعمارته ورعياته والاهتمام بمصالحه واستغرقت في بحر الطبيعة بسبب ضعفها وجزئيتها فاحتاجت في أثناء العمر إلى التعلم طلبا لتذكار ما قد نسيت وطمعا في وجدان ما قد فقدت، وليس التعلم إلا رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها إلى الفعل طلبا لتكميل ذاتها ونيل سعادتها، وإذا كانت النفوس ضعيفة لا تهتدي إلى حقيقة جوهريتها تتمسك وتعتصم بمعلم مشفق عالم وتستغيث به ليعينها على طلب مرادها ومأمولها كالمريض الذي يكون جاهلا بمعالجته ويعلم أن الصحة الشريفة محمودة مطلوبة، فيرجع إلى طبيب مشفق، ويعرض حاله عليه ويأوي إليه ليعالجه ويزيل عنه مرضه. وقد رأينا عالما يمرض بمرض خاص كالرأس والصدر فتعرض النفس عن جميع العلوم وينسى معلوماته وتلتبس عليه ويستتر في حافظته وذاكرته جميع ما حصل في سابق عمره وماضي أيامه. فإذا صح عاد الشفاء إليه يزول النسيان عنه وترجع النفس إلى معلوماتها فتتذكر ما قد نسيت في أيام المرض، فعلمنا أن العلوم مافنيت وإنما نسيت، وفرق بين المحو والنسيان بالناس فإن المحو فناء النقوش والرسوم والنسيان التباس النقوش فيكون كالغمام أو السحاب الساتر لنور الشمس عن أبصار الناظرين لا كالغروب الذي هو انتقال الشمس من فوق الأرض إلى أسفل. فاشتغال النفس بالتعلم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول الفطرة وعرفت في بدء الطهارة.
فإذا عرفت السبب والمراد من التعلم وحقيقة النفس وجوهرها فاعلم أن النفس المريضة تحتاج إلى التعلم وإنفاق العمر في تحصيل العلوم. فأما النفس التي يخف مرضها وتكون علتها ضعيفة وشرها دقيقا وغمامها رقيقا ومزاجها صحيحا فلا تحتاج إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لأنها ترجع به إلى أصلها وتقبل علىبدايتها وحقيقتها وتطلع على مخفياتها فيخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الأشياء في أقل الأيام وتعبر عن المعلومات بحسن النظام وتصير عالمة كاملة متكلمة تستضيء بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس الجزئية وتتشبه من طريق العشق بالأصل. وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخارفها، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت. فهذا هو المطلوب لجميع الناس.

فصل
في حقيقة العلم اللدني وأسباب حصوله
        اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور الإلهام يكون بعد التسوية كما قال الله تعالى (( ونفس وما سوّاها ))[14]. وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه :
أحدها : تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.
والثاني : الرياضة  الصادقة والمراقبة الصحيحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة، فقال (( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( من أخلص لله أربعين صباحا أظهر الله تعالى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )).
والثالث : التفكر، فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التصرف ينفتح عليه أبواب الربح، وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا، كما قال صلى الله عليه وسلم (( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة )). وشرائط التفكر نحصيها في رسالة أخرى إذ بيان التفكر وكيفيته وحقيقته أمر مبهم يحتاج إلى زيادة شرح وتفسير بعون اللهتعالى.
والآن نختم هذه الرسالة، فإن في هذه الكلمات كفاية لأهلها : (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور )[15]. والله وليّ المؤمنين وعليه التكلان، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبه ثقتي في كل آن وحين، والحمد لله رب العالمين.


قدتمت كتابة الرسالة اللدنية









________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________


[1]سورة الإسراء : 85
[2]سورة الأنعام : 59
[3]سورة ص : 29
[4] سورة النساء : 113
[5]سورة البقرة : 30
[6] سورة اتلبقرة : 31
[7]سورة اتلبقرة : 31
[8]سورة اتلبقرة : 32
[9]سورة اتلبقرة : 32
[10] سورة النجم : 5
[11]سورة الكهف الاية : 65
[12]سورة البقرة الاية 269
[13]سورة المائدة الاية 3
[14]سورة الشمس : الاية 7
[15]سورة النور : الاية 40